الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

الفن للفن والعلم للعلم


هناك من يرفض المواضيع الجنسية والشاذة واللا أخلاقية في الفن، ويعتقد إن الفن يجب أن يكون ملتزماً وجادّاً وبالتالي يكون أداة تساعد على إصلاح المجتمع وتهذيبه وليس العكس، وهذا التوجّه فيه عيبان: الأول كونه يفترض إن الإنسان ضعيف العقل والإرادة ويجب حفظه من الإنحراف وهذا هو بالضبط ما تفعله الأنظمة الشمولية والأنظمة الدينية المتشددة، بينما يفترض النظام الليبرالي إن الإنسان حرّ في صياغة أفكاره وفي التعبير عنها مهما كانت غير مقبولة من المجتمع، والعيب الثاني كونه يفترض إنّ الفن أداة ذات هدف تربوي في حين إنّ قيمة الإبداع عادةّ ما تضمحلّ في العمل الفنّي كلما أمعن في الإملاء والتوجيه.

الفنان الأسترالي "سام جينكس"


إطلاق حرّية الإنسان في إبداعه الفني وكذلك في بحوثه العلمية هو المقياس الحقيقي لليبرالية المجتمع، ولا يمكن للمجتمع الليبرالي أن ينتج تطوراً علمياً وحضارياً إذا أخلّ بذلك حتى لو كان ذلك بتوظيف العلم والفن لأغراض الأمن القومي أو لأغراض إنسانية محضة كما تفعل كثير من الدول.

 يمكننا تشبيه التطور الحضاري بالثمرة النهائية التي تتكوّن بشكل سليم وناضج إذا نمت بشكل طبيعي ولا تفقد لذتها ولا فائدتها إلا بقدر ما تبتعد عن الظروف الطبيعية من تربة وهواء وشمس، كما يمكن في المقابل تشبيه التسلط على الفن والأدب بالتلوث البيئي الذي يفقد العمل الفني قيمته ، ونفس المبدأ يمكن أن ينطبق على الإبداع العلمي.

وهذا المبدأ لا يمكن شرحه ولا تقبّله على أساس ديني لأن العمل الفنّي شيء والعمل الديني شيء آخر، وكذلك النظرية العلمية شيء والنظرية الدينية أمر آخر، فنحن نتكلم عن العلم والفن بصفتهما من تجليات قيمتي الحق والجمال المطلقتين ، أمّا الدين فهو من تجليات قيمة الخير ويمكن لمثلث القيم بهذا الشكل أن يوضح حجم المغالطة والظلم الذين يتعرض لهما العلم والفن حين يوظفان لخدمة الأيدلوجيات الدينية والسياسية، فقيم "الحق والخير والجمال" لا تجد مجالاتها إلا في "العلم  والأخلاق والفن" على التوالي، ومن الخلط والمغالطة أن نحكّم المنظومة الأخلاقية على العلم والفن، بل يجب أن يتحرر العلم والفن من أي وازع أخلاقي ، ولكن ليس بمعنى أن يكون الموضوع في حد ذاته "شرّاً محضاً" ، وهناك فرق بين أن يكون الموضوع الذي نحكم عليه هنا شراً أو يكون داعياً أو مشجعاً أو معبّراً عن الشر فهذا لا يمكن أن يتوفّر في أي عمل فني أو علمي. أي إنّ الفن في حد ذاته لا هو خير ولا هو شرّ ولكنّه قد يعبّر عن الخير أو عن الشرّ على حد سواء ولا يغضّ من قيمة العمل الفني أن يكون موضوعه التعبير عن أفكار شريرة بل ترتفع قيمته بقدر ما يكون التعبير عن هذه الأفكار ناجحاً.

وكذلك لو قام أحد العلماء بتجربة علمية على السجناء أو المرضى بدون علمهم وموافقتهم فإنّه بذلك يكون قد ارتكب عملاً لاأخلاقياً، غير إن اللا أخلاقي هنا هو قيامه بالتجربة بدون علمهم وليس موضوع التجربة في حد ذاته ، فلا يمكن للموضوع العلمي أن يكون شراً كما لا يمكنه أن يكون خيراً، أمّا جدواه في منفعة البشرية فأمر آخر لا يرفع من قيمته العلمية كما لا يغض منها لأن كثيراً من النظريات العلمية الكبرى سببت ضرراً ودماراً كما فعلت القنبلة الذرية من دون أن يغض ذلك من قيمتها العلمية ، فنظريات الطاقة والكتلة غيرت مسار العلم تماماً بتغييرها لمبدأ حفظ المادة وثباتها وسرمديتها وفسّرت نشوء الكون بالإنفجار العظيم.

فجميع النظريات والتجارب العلمية يجب أن تُقيّم حسب قيمتها العلمية بغض النظر عن جدواها وعن الموضوع الذي تدرسه ، حتى لو  كان موضوع التجربة يتضمن دراسة موضوع محرّم كطبيعة الشذوذ الجنسي أو إمكانية استنساخ البشر أو الفوائد الصحية المحتملة للتدخين أو بعض أنواع المخدرات أو الفرق بين الأجناس البشرية من ناحية القدرات العقلية والجسدية وغيرها من المواضيع التي قد تغذّي العنصرية بين الرجل والمرأة والأبيض والأسود أو تشجع انتشار المخدرات أو تسبب صدامات داخل مكونات المجتمع. كل هذه المبررات موجودة لتسويغ القيود على الأعمال الفنية والعلمية حتى في الدول التي تدّعي الليبرالية رغم كل ما فيها من وصاية على الكائن البشري من قبل هذه الحكومات المتسلطة، وتسلط الدولة يبقى تسلّطاً حتى لو أثبت جدواه على الصعيد الأمني أو الصحّي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق