الخميس، 25 أكتوبر 2018

ذكرياتك هي حياتك...


والذي يعتاد التخلص من ذكرياته سواء في عقله أو على أرض الواقع إنما هو يطمس جزءاً من نفسه ووعيه ، فالوعي بالماضي ومخزون الذكريات هو ما يشكل الأفكار ويشكل الشخصية ويخلق الطابع التشاؤمي أو التفاؤلي في الإنسان...
والعمر إما أن يضيع هباءاً أو يُترجم إلى خبرات حياتية وأحاسيس إما سيئة أو جيدة، واللحظة الوحيدة التي تخلق المعيار الصحيح هي لحظة ما قبل الموت، فهناك يتولد إمّا شعور بالرضا أو شعور بالحزن، وهذا يعتمد على الإنطباعات الجيدة أو السيئة التي كوّنها الشخص، و لن يكون الأمر متعلقاً بخبرات في الميكانيكا والكهرباء أو الأمور المالية بالطبع، بل بانطباعات عن علاقات جيدة وصداقات وتضحيات وأناس مليئين بالمشاعر الحية والصادقة والمخلصة عرفهم وعلاقات عاطفية مع نساء جميلات رقيقات وأشياء ومناظر جميلة وممتعة ، كل هذا لن يجعله يأسف على انقضاء حياته، ولو خُيّر بين أن يستمر في حياته كما هي أو العودة الى الشباب ليعيش حياته من جديد لما رأى ذلك إلا عبثاً لأنه فعل كل ما يرغب في فعله وعاش الحياة كما يجب أن تُعاش، أما إذا طمست تلك الذكريات ونسيها فإن شعوره بالزمن لن يكون سليماً بل سيحس عند تلك اللحظة وكأنه ولد بالأمس ليموت اليوم، فالذكريات هنا تمثّل عصب الحياة للروح والعقل ومصدر الطاقة للهوية والذاكرة الشخصية يمتد منذ الولادة الى اللحظة التي نعيشها ، ومن يقطع هذا العصب قد يعيش تلك اللحظة الأخيرة -والتي تعتبر اللحظة التقييمية الأثمن- بحسرة وندامة، وفي تلك اللحظة يقيّم الإنسان كل شيء بمعاييره الشخصية وبالعقيدة التي كوّنها بينه وبين نفسه، ويتأكّد الإنسان إن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه في حياته أن يعيش حياته كما يريد الناس وحسب موازينهم ومعاييرهم، لأنه سيعرف حينها إنّه أرضاهم بما لا يغنيهم بينما خسر نفسه حين تماهى مع مواقف لا أخلاقية حسب معاييره، أو يكون على الأقل قد بنى حياته على عبث المجاملات.

الخميس، 11 أكتوبر 2018

اكذوبة وزيف قوانين حقوق الأطفال




من خلال الإطلاع على ما يسمونه قوانين حقوق الطفل في جميع أنحاء العالم نرى إنها تستعبد الطفل ولا تعطيه شيئاً من حقوقه، فالحقوق هنا ليست حقوق الطفل بقدر ما هي حقوق لمن يفرضون الوصاية على الطفل.
العقل والبداهة يقولان إن من حقوق الطفل العمل، وهو ليس معيباً ولا مجحفاً في حقه إلا إذا كان يتعدى قدرته العقلية والجسدية وكان مُكرهاً عليه، وكذلك من حقوقه العلاقات الجنسية والتعبير عن ميوله في هذا الإتجاه بكافة الطرق ، وخصوصاً بعد أن يكون قد جاوز الحلم ودخل مرحلة المراهقة، حيث إن الميول والغرائز تنمو بشكل واضح قبل بلوغه الثامنة عشر بكثير علماً بأن وثيقة حقوق الطفل تجعل هذه السن معياراً وحدّاً فاصلاً بين الطفولة القاصرة ناقصة الأهلية وبين البلوغ . 
وحتى عند ارتكاب هؤلاء للجرائم فلا معنى لإستثناءهم من العقوبة ، لأنهم يعُون إلى حد ما مسؤوليتهم عن كل ما يقترفونه ، ومن الطبيعي أن لا يكون ذلك بشكل كامل كما هو عند البالغين ولكنه يتطور بعد بلوغ النضج العقلي الكامل (٦سنوات) وعلى درجات إلى أن يصل سن البلوغ (١٨ سنة) ، وكذلك المسؤولية والعقوبة يجب أن تكون على درجات بين هذين العمرين.
في العادة يبدأ وعي الطفل بمسؤوليته وإدراكه الواقعي لما حوله منذ سن السادسة،  بدليل إن أغلب دول العالم تجعلها العمر المفضل لإدخال الطفل إلى المدرسة، وإلى عهد قريب كان الأطفال يعاقبون على ما يقترفونه من تقصير في تلك السن من دون إنكار ولا استغراب، كما كانوا يعتبرون مسؤولين عن أفعالهم أمام القانون كبالغين إذا تجاوزوا السابعة من عمرهم ويسجنون ويعاقبون كما يعاقب البالغ إذا ارتكبوا أي جريمة أو جنحة (في القرن التاسع عشر وما قبله)،  وحتى الآن نجد كثيراً من مدارس العالم الثالث تمارس الأسلوب التربوي الذي يستند إلى العقاب بل قد يتعرضون للسجن في هذه الدول لأسباب سياسية أو جنائية في حين إن نفس هذه الدول لا تقرّ للطفل بأي حقوق بالمعنى الحقيقي للحقوق ، ولا تقرّ لهم بحرية اتخاذ القرار في أدق تفاصيل حياتهم ، فالطفل في هذه الدول لا يُسْتشار في شيء ولا يُسأل عن المسار الذي يفضله أو يختاره في جميع شؤونه الخاصة، وقد تقوم بعض المجتمعات بتنظيم زواج البنت في سن السادسة أو الثامنة في صورة من أبشع صور الإستعباد ( وهذه الظاهرة شائعة جداً في النيجر وأفريقيا الوسطى تشاد وبنغلاديش والهند وفي دول أخرى من العالم الثالث).


وعند بعض الطوائف اللبنانية كانت جريمة الثأر تُنفذ بيد طفل لم يبلغ بعد، قد يكون في الرابعة عشر من عمره أو أقل، لكي لا تطاله يد القانون، وكثير من الميليشيات الأفريقية تستعين بأطفال في نفس هذه السن ليرتكبوا أفظع المجازر، وكذلك داعش تفعل نفس الشيء. وبالتالي فإن الطفل قادر على ارتكاب أفظع الجرائم ولا يوجد في مبدأ العقوبة -ولو بشكل متدرج- ما يتعارض مع الواقع أو طبيعة الأمور ، أما دعوى عدم اكتمال وعي الطفل وإدراكه ومسؤوليته فيمكن أن نقترح له تدرّجاً يساعد الطفل على تنمية مسؤوليته بشكل يسمح بالتكيّف معه وفهمه بشكل مستقل ومتدرج وبالتالي يتم تحريره من وضعية عدم الأهلية ولو بتدرج بطيء. يبدأ التدرج من مرحلة أولى تبدأ من سن السادسة وحتى العاشرة من عمر الطفل وتكون هذه المرحلة مرشحة لأخف العقوبات الممكنة حيث تكون مسؤولية الطفل ناقصة ، ونلاحظ إن اهتمام الحكومات اليوم ينصبً في ضمان الحماية و الرعاية لمن في هذه السن وهذا شيء جيد ولكنه ليس من اختصاص الدولة، بل هو من اختصاص العائلة أو الجمعيات الخيرية إذا وُجِدت، ومن الطبيعي أن يمارس الوالدان سلطتهما وحمايتهما على الطفل في هذه السن ، وإذا حدث إهمال من الوالدين وتم التفريط في هذه الحماية فإن الدولة لن تتبرع برعاية الطفل في هذه الحالة، لأن إختصاصها فقط ينحصر في حمايته من الإعتداء. قد يكون من الواجب انشاء جمعيات لرعاية الأطفال المشردين، وهو ضروري جداً خصوصاً لحمايتهم من التسول ولا يوجد من في قلبه ذرة إنسانية ولا يشعر بهذه الضرورة، ولكن نؤكد إن هذا ليس هو تخصص الدولة، وعلى ضمائر الناس أن تتحرك من تلقاء نفسها وليس بالضغط الحكومي الذي ينهب الضرائب من المواطنين قسراً لينفق على هذه المشاريع الخيرية وحتى مع افتراض ان الحكومة غير فاسدة وحتى مع افتراض عدم استخدام الحكومة مثل هذه المشاريع في التسلط على المواطن وتقييد حقوقه فإنه ليس من حقها انتزاع المال من مستحقيه للتصدق به على آخرين .
المرحلة الثانية من السن (١٠-١٤) سنة تكون ذات أهمية خاصة لأن أغلب الأطفال المجندين للأعمال الإرهابية تكون في هذه المرحلة، وفتح أبواب العمل لهؤلاء بشكل قانوني سيوفّر حماية لهؤلاء من الدخول في  المافيات الإجرامية، حيث إن أغلب الحالات الإجرامية تبدأ من هذه السن ، وإذا أعفينا الطفل في هذه المرحلة من تحمل مسؤولية أفعاله فإن إجرامه سيتطوّر ويترسّخ حتى يتحوّل إلى مهنة أو حتى إلى جزء من شخصيته وتربيته يصعب التخلّي عنه ، وإذا نظرنا إلى ما يحدث على أرض الواقع نجد إنهم بالفعل يوضعون في مؤسسات إصلاحية في كندا وأمريكا إذا تجاوزوا الثانية عشر من العمر، وفي 125 دولة حول العالم يحاكمون ويسجنون بين سن السابعة والخامسة عشر (أي المرحلة الأولى والثانية ) مما يؤكّد واقعية هذا التصرّف (بغض النظر عن قسوته أو كونه ظاهرة سيئة) ، وإمكانية إعطاء حريات واسعة للأطفال في هذه السن .


ثم تكون المرحلة الثالثة من سن ال١٤ إلى سن ال١٨  والأطفال في هذه المرحلة في أغلب المجتمعات لا يُعتبرون أطفالاً بل مراهقين وشباباً قادرين على مختلف الأعمال وعلى تحمل المسؤوليات وفي كثير من القوانين يوضعون في سجون إصلاحية إذا ارتكبوا أي جريمة بشكل وقائي لحمايتهم وحماية المجتمع منهم، بالإضافة إلى إن كثيراً من المجتمعات كانت ترى زواج الرجال في هذه السن أمراً طبيعياً، وكذلك العمل ، والعلاقات الجنسية عادةً ما تبدأ في هذه المرحلة ولكن القوانين تعتبر أي علاقة مع من هم دون ال١٨ غير سويّة لأنها "علاقة مع قاصر ناقص الأهلية" ويضع لها القانون أشد العقوبات حتى لو كانت برضا الطرفين. 
أي أن الأطفال من السن ٦ الى السن ١٨ يعتبرون أطفالاً واعيين ويستحقون نصيبهم من الحرية وكذلك من المسؤولية ولو على درجات ، واقتراح الثلاث مراحل قد لا يعتبر دقيقاً علمياً ولكنه جيد كبداية، ومسافة الأربع سنوات في كل مرحلة هو أمر تقريبي لا غير . ولا شك إن الأطفال في المرحلة الثالثة مظلومون في أغلب القوانين ، كما إنهم يُعتبرون طاقات مهدرة قد تكون قادرة على المشاركة في البناء والإنتاج لو هيئت لذلك، كما إن نقلهم من عالم القُصّر الناقصي الأهلية سيوفّر زمنياً مراحل في حياة الإنسان القصيرة نسبياً.

السبت، 6 أكتوبر 2018

مغالطات في المفاهيم الأخلاقية الشائعة


كثير من الأخلاق للأسف سممت حياتنا السياسية والإجتماعية ، ولوثت اللغة بالتزييف واختلاط المعايير وهي في الحقيقة آليات للسيطرة على المجتمعات أو إجبارها على الرضوخ أو إشعال حماستها للحروب وخوض الصراعات ، فهي لم تكن يوماً أخلاقاً بالمعنى الصحيح للكلمة ، وبعضها ينتشر بين الأشرار والمجرمين وقطاع الطرق أكثر من انتشاره بين النفوس المحبة للخير، وبقليل من المنطق نكتشف انها مغالطات منطقية إما مُررت إلينا أو فرضها الواقع والعادات والتقاليد والأعراف. بعض هذه الأخلاق تم تصنيفه من ضمن الفضائل لمساعدة الجماعات البدائية على البقاء والصمود أمام الطبيعة وأمام الجماعات الأخرى ، وعند التمعن والتدقيق نجد إنها لا علاقة بمفهوم الخير والشر رغم انها مدعاة للإحترام من أفراد المجتمع وقد تكسب الإنسان مكانة وقوة و سمعة  حسنة وذلك فقط لأنها استقرت في أذهان الناس كفضائل تستحق التنويه، وهذه أمثلة لبعضها :

الصبر ..

من أكبر الأوهام خلق الصبر، فالمتدينون يفهمونه بشكل واللادينيون يفهمونه بشكلٍ آخر ، وحين نقارن تعريفاتهم نجدهم يتكلمون عن وهم ومفهوم ضبابي ناتج عن تزييف الحقيقة...
فالصبر عند المتدين هو الرضا بالأقدار وعدم إظهار السخط على قضاء الله... وعند طيفٍ واسع من الناس الصبر هو قوة تحمل المصاعب النفسية والجسدية، وهذا أمرٌ خاص بالتكوين الجسدي وقوة جهاز المناعة وكذلك مقاومة الجهاز العصبي للصدمات وهي خصائص فسيولوجية، لذلك تجد البعض ينهار عصبياً في الكبر من أمور طالما تحمّل أضعافها في صغره من دون إظهار الجزع أو الإجهاد النفسي.
أمّا ما يدّعيه المتدينون من تعريفات للصبر فهي مناقضة للصحة النفسية حيث يوصي هؤلاء بكبت مشاعر الحزن وعدم البكاء أو الشكوى وهذا الأمر قد يسبب كوارث صحية خصوصاً لبعض كبار السن والمصابين بالضغط والسكّري والإكتئاب وغيره. 
فالصبر خلق غير محمود صحّياً خصوصاً مع اكتشاف علاقته بأمراض عصرية لا حصر لها، بالإضافة إلى إن تعمد الشخص لإظهار أثر المصيبة هو انعدام للشفافية وتزييف للواقع  ، وأي فعل من هذا النوع هو سير ضد قوانين الطبيعة وعادةً ما تكون  له عواقبه وآثاره السيئة في العلاقات الإجتماعية كتلك الآثار التي تنتج عادةً عن سوء التقدير  والفهم بين الأقارب والأصحاب عند عدم تقديرهم لصعوبة ما يمر به قريبهم أو صديقهم.


الشجاعة ..

خلق الشجاعة لا يحمل قيمة خيّرة في ذاته بل إنه مناسب للبلطجيين أكثر منه لذوي الخلق الحسن، فالشجاعة جيّدة في المواقف الجيّدة وسيّئة في المواقف السيّئة، وبالتالي فهي تخدم عادةً خلقاً آخر وتساعده في إيقاع النفع أو الضرر بالآخرين، ولكنها هي نفسها حيادية تماماً ولا شيء فيها يربطها بالأخلاق والقيم والمباديء.
ويمكننا القول أيضاً إن الشجاعة ترتبط بالقوة أكثر من ارتباطها بمبدأ الحق، وعادةً ما يقف الإنسان مواقف أخلاقية تجبره على الموازنة بين الإستناد إلى الحق والإستناد إلى القوة، وفي كل هذه المواقف يقف الإثنان على طرفي نقيض فمن كانت لديه القوة (سواء قوة الشخصية أو القوة البدنية) كان أكثر شجاعة، وهذا على الأغلب وإن كان العكس وارداً أيضاً، لكن في الحالتين تبقى الشجاعة والقوة قيماً حياديّة إلا إذا كنّا نقصد بهما قوة الحق والشجاعة على قوله وهذه تعبيرات مجازية لا أكثر.


المغفرة ..

إن أسوأ رد يمكنك القيام به تجاه الإعتداء ليس أن ترد عليه باعتداء مماثل لكن أن ترد عليه بالمسامحة والمغفرة ، فإذا كان الإعتداء الذي واجهته عن سابق إصرار وترصد، بنية مبيتة قبله وعدم إظهار الندم بعده، فالمسامحة في مثل هذه الظروف جريمة، إلا إذا ثبت إن هناك سوء فهم أو نقطة خلاف في الموضوع ، لأن مسامحتك تصب في مصلحة الجريمة لأنها تشجع على الإجرام فهي بذلك دليل على أنانيتك لأنك لم تأبه لمن قد يستهدفهم هذا المجرم بعدك ، وموقفك ضده يجب أن يكون موقفاً ضد الجريمة وضد الشر وضد الظلم ، ويجب أن يكون واضحاً وأبدياً وأزلياً لا يغيره شيء، فهو بذلك يكون مشرفاً ولا يمكن أو يوصف بالحقد إلا على سبيل المغالطة. أما التصرف السليم للمعتدي إذا أظهر ندمه فيجب عليه إعادة الإعتبار والإستعداد للعقوبة المحددة حسب القانون ، وليس له أن يطالب المعتدى عليه بمسامحته أو نسيان الموضوع أو معاملته بشكل اعتيادي حسب نوع العلاقة بينهما أو بعدم الحذر منه.


وكذلك مساوئ الأخلاق تعدّت ما يشمله مفهوم الشر والنوايا العدائية إلى بعض الصفات التي تفقد الناس مصداقيتهم والثقة فيهم في نظر الآخرين ، وبعض هذه الصفات يندرج تحت بند اللامبالاة و العبثية كالكسل والثرثرة  غير ان البعض الآخر صُنِّف من ضمن المساوئ لأنه يعرقل المعاملات التجارية والقضائية وما في معناهما كالكذب وعدم الوفاء بالعهد وهذا يبرر أهمية تصنيفها كمساوئ، بالإضافة إلى عدم الثقة فيمن ينتحلها ، ولكنها مع ذلك تستعمل بكثير من المغالطة  سواءاً بازدواجية المعايير أو تمييع المعنى واستخدامه في غير موضعه ، أو قد تكون فارغة المعنى وتستعمل لتسويغ الإضطهاد لفئات معينة في المجتمع مثل الخيانة..



الكسل..

خلق الكسل هو أكثر الأخلاق ظلماً فقد صنفته المسيحية ضمن الخطايا السبع المميتة وكفّر الإسلام المتكاسلين عن أداء الطقوس اليومية أو جعلهم من المرتكبين للكبائر على أقل تقدير ،مع العلم إن الكسل قد لا يكون بإرادة الشخص بل كنتيجة لبعض الأمراض أو الضعف العام وهو مع ذلك لا يسبب ضرراً على كل حال، غير انه قد يجعل المصاب به عالةً على المجتمع إذا لم يكن له مورد رزق يعتاش منه ، ولعل هذا هو السبب الذي يجعل الناس يصنفونه كنقيصة وخلق سيء  ،  فهم عادةً لا ينتبهون إلى ظاهرة الكسل إذا كان المصاب به مليونيراً مترفاً مثلاً ، مما يجعلنا نعتقد إن بعض الأخلاق السيئة صُنّفت كذلك لإبعاد شبح الفقر والفناء  عن المجتمع وكآلية من آليات البقاء لا أكثر.


الكذب ..

يجعل الكذب العلاقات بين أفراد المجتمع صعبة وإذا كان الكذّاب حراً في كذبه فالناس أحرار كذلك في تجنبه وعدم الثقة فيه ، وعادةً ما تستعمل السلطة والكهنوت الديني الكذب والتزييف ويبيحونه في المؤامرات بدعوى إن "الحرب خدعة" ويحرّمونه في الأمور الترفيهية كإطلاق النكت البريئة أورواية القصص الخيالية ، فيما هم يجبرون المواطن على الصدق لأنهم لا يريدونه أن يلف ويدور معهم وفي نفس الوقت يجيزون لأنفسهم الكذب ويجبرون الناس على تصديقهم  ليسهلوا من عملية غسيل الأدمغة ولتسخيرهم في أغراضهم وطموحاتهم.  
ولكي لا نخلط الأمور ببعضها نحن نعلم إن من حق الإنسان أن يقول ما يشاء وليس من حقنا أن نجبره على الإدلاء بمعلومات صحيحة إلا في نطاق المعاملات الإدارية والقضائية التي تستلزم الصدق، وهذا يختلف بالطبع عن المزاح والنكت البريئة والروايات الخيالية التي يضخم كثير من المتدينين أمرها وإذا أخذنا في اعتبارنا إن المبدأ الأساسي للأخلاق أن يقتصر الخلق السيء على ما ينطوي على ضرر للآخرين بشكلٍ أو بآخر فقد لا نرى في خلق الكذب ما يُدرجه تحت هذا التعريف ، ولتوضيح مكانة الكذب وموقعه بالنسبة لمفهوم الشر يمكننا تمييز كل ما يتعلق بالشر (كنقيض للخير) وفصله بوضوح عن الأمور التي تتعلق بالباطل (كنقيض للحق) ، فالكذب من حيث هو باطل ليس أمراً شريراً بقدر ما هو عبثي وعديم الفائدة ، فجوهر الأخلاق في قيمة الخير وجوهر العلم في الصدق وهما منفصلان تقريباً ، مما يعني إن تناقض الكذب مع الأخلاق ليس جوهري وأساسي بل هو أمر عارض ، ورغم إن الإنسان يحتاج في حياته اليومية لأن يتعامل مع من لا يتكلم إلا صدقاً  فإنه لا أحد يستسيغ أن يسميه شريراً إذا قدم إليه معلومات كاذبة حتى لو كان يقصد ذلك. لذلك ميز الفلاسفة بين قيمة الخير والحق في مثلث القيم المعروف (الحق-الخير-الجمال) ، فالكثير مما صنفه الناس كخلق سيء  لا يمت إلى جوهر الأخلاق بصلة فهم صنفوه كذلك إما لأنهم يشمئزون منه أو لأنه يفقد المصداقية والثقة ،  والكذب من أول الأمور التي تفقد المصداقية  وذلك إذا كان في أمور جدية  تستدعي الثقة ، وإذا كنّا نقصد تزييف الحقائق وشهادة الزور كاتهام الناس ظلماً بأمور لم يرتكبوها فإن مكمن الشر هنا ليس في الكذب بحد ذاته بقدر ما هو توظيف الكذب في الإضرار بالناس  .

الخيانة..

اصطلاح الخيانة العظمى يضعه أشخاص تمكنوا بالقوة من استعباد فئات من البشر داخل مواقع جغرافية محددة اصطلح على تسميتها دول أو أوطان واعتبروا كل من بداخلها عبيد وحلفاء بالقوة ومن يتعامل مع فئات أخرى خارج هذا الموقع الجغرافي ويتحد معه لرفع الظلم يصبح خائناً خيانة عظمى .
لا أحد منطقياً يحق له أن يلزم الناس بالولاء والتحالف القسري معه بناءاً على قرابة الدم أو القبيلة أو الوطن أو زمالة العمل ما لم ينص إتفاق مكتوب بينهما أو عقد عمل أو معاهدة  على ذلك وبموافقته بشكل واضح لا يقبل التأويل. ويمكننا تسمية الإعتداء الغير متوقع والمخالف لبنود المعاهدة خيانة أما غير ذلك فيظل اسمه اعتداء إذا كان بطريقة مباشرة أو غدر إذا كان بطريقة غير متوقعة.

السبت، 26 مايو 2018

الحي القيوم : الهوية الحقيقية لخالق الكون

الإله الحقيقي هو الكائن الوحيد الذي لم تفلح الديانات السماوية في تعريفه بشكل صحيح. وإذا كنا نقصد بالإله هنا الرب الخالق ؛العلة الأولى والمكوّن لكل شيء؛ فإن أنسب كلمة للتعبير عنه -بالمناسبة- ليست "إله" ولكن "حي قيوم" وهو تعبير يناسب القائلين بوحدة الوجود، فإذا كانت هذه الصفة تعني إنه كالطاقة الكهربائية التي تمد المصابيح والأجهزة في شبكات ضخمة بحجم مدينة كنيويورك أو القاهرة مثلاً، فهذا تعبير جيد، أمّا تعبير "الإله" فهو ينطوي على الحاجة إلى العبادة والتأليه، وبمجرد انقطاع العبادة بهذا المعنى قد يختفي هذا الكائن السماوي لأنه يفقد صفة الإله، فمن لا يؤلّهه أحد لا يمكن أن نسميه إله، كما إنّ الشيء الذي لا يقدّسه أحد لا يسمّى مقدّس، والشخص الذي لا يصلّي وراءه أحد لا يمكن أن يُسمّى إماماً ما لم يجد من يأتمّ به.
إذاً ، خالق الكون لا يحتاج بالضرورة لمن يعبده ولا لمن يتكلّم معه، ويكفيه عظمةً أنّه يسيّر كل ذرّة في الكون كما إنّه المسؤول عن كل فكْرة نفكر بها ومهيمن عليها وبالتالي هو غير محتاج لأن تتوجّه الأفكار لتعظيمه وعبادته ومحبّته، وكل هذه الأمور تندرج تحت صفة الحي القيوم، مما يجعل هذه الصفة تتعارض مع كلّ الطقوس والعبادات والكتب المقدّسة.
الحي القيوم غير مُلزم بخلق سيناريوهات ينتصر فيها الخير على الشرّ، كما إنّه غير مُلزم بجعل الناس أخياراً طيبين ورحماء حسب المقاييس العقلية التي منحنا إيّاها، فمن المنطقي أن يكون للمالك الحق الكامل في أن يفعل في مُلكه ما يشاء.
قد يكون من الصعب على الملحدين وعلى كثير من أصحاب الديانات فهم هذا، مع إنّ أصحاب الديانات  -وكما سنشرح بعد قليل- يؤمنون بذلك ضمنياً، ولكن يمكن توضيح الموقف الحقيقي الذي يقف فيه خالق الكون أمام مخلوقاته بمثل معاصر وبسيط إلى حدٍّ ما، وهو مثل المبرمج للألعاب الكمبيوترية، فهو يماثل إلى حدٍّ ما خالق الكون حين يخلق بيئة اصطناعية ثلاثية الأبعاد تعيش فيها مخلوقات افتراضية تتحرك حسب قوانين يضعها هو، وأحياناً تكون هناك جرائم وضحايا ومجرمين وتدمير للممتلكات، ولا أحد يعتقد إن هذه الكائنات الإفتراضية ظُلِمت أو إن المبرمج ظالم وشرّير لإنه صنعٙ أحداثاً شريرة أو أشخاصاً أشرار.

هنا نصل إلى نقطة هامّة ومحورية في جدلية الإيمان والإلحاد وهي إنّ صنع الإله للشرّ لا علاقة له بإثبات وجوده أو عدم وجوده، وشرعنة الديانات لطقس الأضحية وقصة ابراهيم النبي مع ابنه حين حاول ذبحه بناءاً على أمر إلهي تدلّ على مصادرة الإله لحق الإنسان في الحياة حين يرغب في ذلك، وهذا ما نجده ولو بصورة أخفّ في أمرِه للمؤمنين بقتال الكافرين لمجرّد إنّ هؤلاء لم يفلحوا في التعرّف على هذا الإله، وعلى الأقلّ لا يمكن لأصحاب هذه الديانات إنكار إن غير المؤمن كان دائماً إنساناً من الدرجة الثانية ولم يسمح له بأن يقف على قدم المساواة مع الإنسان المؤمن.
النقطة الثانية هي إن رغبة الله في إيصال كلمته بهذه الطريقة فيها كثير من النقص ، فقد كان مثلاً  قادراً على خلق حواسّ باطنية في الإنسان تستقبل أوامره مباشرةً من دون وسطاء ، وتجعلها غير قابلة للتزييف والتحريف، كما إنّها تصبح مؤكّدة المصدر لمن يستقبل الوحي بهذه الطريقة ، ولا يخفى إن الكلمات الموحى بها في الكتب المقدّسة كانت متعارضة من دين لآخر رغم تأكيده على حفظه لهذه الكلمات المقدّسة، كما إنّها حُرّفت رغم ذلك وزُيّفت بأنبياء كذبة وتأويلات مختلفة مما أفشل خطّة الله في هداية خلقه. ورغم كلّ ذلك لا ننكر إنّ الله له الحق في خلق كل هذه الفوضى ؛وقد يكون له حكمة لا نعلمها وقد لا يكون؛ وهذا لا يصادر حقّه في أن يفعل في خلقه ما يشاء ولكن دعوته في هذه الكتب لتحكيم العقل والتدبّر يجعلنا أمام حقائق يلغي بعضها بعضاً ويجعلنا غير ملزمين بالإيمان بأنه يقصد حقّا ما يقوله. أي أنّه باختصار، ومع توفّر جميع إمكانات المقارنة بين النصوص في عصرنا الحالي لا نجد ما يكفي لإقناعنا بأن هذه الكتب هي رسائل إلهية مع إقرارنا باحتمال ولو ١٪ أن يكون الله حقّاً يقصد إدخالنا في هذه المتاهة !!. 

البحث عن الله .. بحث عن الأم أم بحثٌ عن العشيقة ؟!




الذين يبحثون عن الله يسلكون طريقين لا غير ، ومهما تعددت الأفكار والطرق في البحث عن تلك الذات العليا والحقيقة الكبرى فإنها كلها ترجع إلى أصلين أو نوعين فقط ...

(النوع الأول):- يبحث عن الله بطريقة الرجل الذي يبحث عن نصفه الآخر، ورغم اختلاف العلاقة الزوجية عن العلاقة بالله فإنه في كليهما يبحث عن الإتزان النفسي وإشباع غرائز وحاجات أساسية ومركز اجتماعي ...الخ وبالتالي فإنه يبحث عن نصفه الآخر بناءاً على معايير مثالية اخترعها هو وليس عن شخص محدد مسبقاً، ومن يبحث عن الله بهذه الطريقة يضع مواصفات معينة من العدل والرحمة المطلقة بالإضافة الى الإحتكام إلى المعايير المثالية التي أملاها عليه عصره أو تربّى عليها في صغره، وأغلب المتدينين في هذا العصر يسلكون هذه الطريقة التي يُرْضُون بها أنفسهم ويحققون بها الإتزان النفسي مع المجتمع ويتوافقون بها مع معايير العصر، وأمثال هؤلاء يصدق القول عليهم إنهم يصنعون آلهتهم لا إنهم يبحثون عن الإله الحقيقي ....



(النوع الثاني):- يبحث عن الله بطريقة الشخص الذي يبحث عن والديه كما في مسلسل الكرتون الشهير "بشار" حيث تقضي نحلة يتيمة حلقات المسلسل الثلاثين في البحث عن أمّها، ومثل هذا الشخص بالطبع لا يملك معايير ومواصفات ليختار أمه طبقاً لها ولكنه يبحث عن أمّه الحقيقية التي قد تكون خلاف توقعاته، وبالتالي فإن من يبحث عن ربه الذي خلقه بهذه الطريقة يحاول معرفة الإله الحقيقي بغض النظر عن التعريفات المسبقة، ويدرك عجزه عن تحديد ماهية الله وبالتالي فقد يجد إنّ هذا الإله سفّاح دموي وقد يكون رؤوف رحيم ومع ذلك لا يجسر على تحديد إطار معين ليضع فيه هذا الإله لأنه يدرك إن هذا السلوك هو غباء مطلق بالإضافة إلى كونه سوء أدب مع ذلك الإله العظيم الخالق لكل شيء...






الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

الفن للفن والعلم للعلم


هناك من يرفض المواضيع الجنسية والشاذة واللا أخلاقية في الفن، ويعتقد إن الفن يجب أن يكون ملتزماً وجادّاً وبالتالي يكون أداة تساعد على إصلاح المجتمع وتهذيبه وليس العكس، وهذا التوجّه فيه عيبان: الأول كونه يفترض إن الإنسان ضعيف العقل والإرادة ويجب حفظه من الإنحراف وهذا هو بالضبط ما تفعله الأنظمة الشمولية والأنظمة الدينية المتشددة، بينما يفترض النظام الليبرالي إن الإنسان حرّ في صياغة أفكاره وفي التعبير عنها مهما كانت غير مقبولة من المجتمع، والعيب الثاني كونه يفترض إنّ الفن أداة ذات هدف تربوي في حين إنّ قيمة الإبداع عادةّ ما تضمحلّ في العمل الفنّي كلما أمعن في الإملاء والتوجيه.

الفنان الأسترالي "سام جينكس"


إطلاق حرّية الإنسان في إبداعه الفني وكذلك في بحوثه العلمية هو المقياس الحقيقي لليبرالية المجتمع، ولا يمكن للمجتمع الليبرالي أن ينتج تطوراً علمياً وحضارياً إذا أخلّ بذلك حتى لو كان ذلك بتوظيف العلم والفن لأغراض الأمن القومي أو لأغراض إنسانية محضة كما تفعل كثير من الدول.

 يمكننا تشبيه التطور الحضاري بالثمرة النهائية التي تتكوّن بشكل سليم وناضج إذا نمت بشكل طبيعي ولا تفقد لذتها ولا فائدتها إلا بقدر ما تبتعد عن الظروف الطبيعية من تربة وهواء وشمس، كما يمكن في المقابل تشبيه التسلط على الفن والأدب بالتلوث البيئي الذي يفقد العمل الفني قيمته ، ونفس المبدأ يمكن أن ينطبق على الإبداع العلمي.

وهذا المبدأ لا يمكن شرحه ولا تقبّله على أساس ديني لأن العمل الفنّي شيء والعمل الديني شيء آخر، وكذلك النظرية العلمية شيء والنظرية الدينية أمر آخر، فنحن نتكلم عن العلم والفن بصفتهما من تجليات قيمتي الحق والجمال المطلقتين ، أمّا الدين فهو من تجليات قيمة الخير ويمكن لمثلث القيم بهذا الشكل أن يوضح حجم المغالطة والظلم الذين يتعرض لهما العلم والفن حين يوظفان لخدمة الأيدلوجيات الدينية والسياسية، فقيم "الحق والخير والجمال" لا تجد مجالاتها إلا في "العلم  والأخلاق والفن" على التوالي، ومن الخلط والمغالطة أن نحكّم المنظومة الأخلاقية على العلم والفن، بل يجب أن يتحرر العلم والفن من أي وازع أخلاقي ، ولكن ليس بمعنى أن يكون الموضوع في حد ذاته "شرّاً محضاً" ، وهناك فرق بين أن يكون الموضوع الذي نحكم عليه هنا شراً أو يكون داعياً أو مشجعاً أو معبّراً عن الشر فهذا لا يمكن أن يتوفّر في أي عمل فني أو علمي. أي إنّ الفن في حد ذاته لا هو خير ولا هو شرّ ولكنّه قد يعبّر عن الخير أو عن الشرّ على حد سواء ولا يغضّ من قيمة العمل الفني أن يكون موضوعه التعبير عن أفكار شريرة بل ترتفع قيمته بقدر ما يكون التعبير عن هذه الأفكار ناجحاً.

وكذلك لو قام أحد العلماء بتجربة علمية على السجناء أو المرضى بدون علمهم وموافقتهم فإنّه بذلك يكون قد ارتكب عملاً لاأخلاقياً، غير إن اللا أخلاقي هنا هو قيامه بالتجربة بدون علمهم وليس موضوع التجربة في حد ذاته ، فلا يمكن للموضوع العلمي أن يكون شراً كما لا يمكنه أن يكون خيراً، أمّا جدواه في منفعة البشرية فأمر آخر لا يرفع من قيمته العلمية كما لا يغض منها لأن كثيراً من النظريات العلمية الكبرى سببت ضرراً ودماراً كما فعلت القنبلة الذرية من دون أن يغض ذلك من قيمتها العلمية ، فنظريات الطاقة والكتلة غيرت مسار العلم تماماً بتغييرها لمبدأ حفظ المادة وثباتها وسرمديتها وفسّرت نشوء الكون بالإنفجار العظيم.

فجميع النظريات والتجارب العلمية يجب أن تُقيّم حسب قيمتها العلمية بغض النظر عن جدواها وعن الموضوع الذي تدرسه ، حتى لو  كان موضوع التجربة يتضمن دراسة موضوع محرّم كطبيعة الشذوذ الجنسي أو إمكانية استنساخ البشر أو الفوائد الصحية المحتملة للتدخين أو بعض أنواع المخدرات أو الفرق بين الأجناس البشرية من ناحية القدرات العقلية والجسدية وغيرها من المواضيع التي قد تغذّي العنصرية بين الرجل والمرأة والأبيض والأسود أو تشجع انتشار المخدرات أو تسبب صدامات داخل مكونات المجتمع. كل هذه المبررات موجودة لتسويغ القيود على الأعمال الفنية والعلمية حتى في الدول التي تدّعي الليبرالية رغم كل ما فيها من وصاية على الكائن البشري من قبل هذه الحكومات المتسلطة، وتسلط الدولة يبقى تسلّطاً حتى لو أثبت جدواه على الصعيد الأمني أو الصحّي.

الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

تحرير التعليم

الليبرالية الحقيقية لا تؤيد دعم السلع ولا الخدمات... فالدولة لا تقدم تعليماً مجانياً وبالتالي قد تتضرر نسبة من الطبقات الفقيرة جداً في المجتمع وتزيد نسبة الأمية... وهذا اعتراض وارد والرد عليه ينطلق أساساً من الرجوع إلى الوضع الطبيعي، والوضع الطبيعي للأمور هو أن تنفق على نفسك بنفسك ولا أحد يلزم غيرك بأن يصرف عليك إلا إذا فعل ذلك راضياً بشكل من أشكال الأعمال الخيرية، أما أن تأخذ الدولة الضرائب من الأغنياء بشكل إجباري لتنفقها على الفقراء فإن هذا يتنافى مع المنطق والدين.
يجب أن نعلم إن الدولة بالشكل الذي نطمح إليه هنا لا تكاد تكون دولة بل مجرّد كيان إداري بسيط للقيام بالمهام الأساسية وهي لا تقيّد المواطنين بالضرائب ولا تستعبدهم بالتجنيد الإجباري ولا تورطهم في خوض الحروب وبالتالي فهي تضع عن كاهل الشعوب كثيراً من الهموم والمشاكل وكذلك العراقيل التي تعوق رأس المال وبالتالي يتحسّن المستوى المعيشي لكل من لديه المال أو الخبرة أو الإبداع ،  ولا يستلزم ذلك أن يكون كل المجتمع متعلماً تعليماً عالياً، بل إنّه من السلبيات التي تعانيها كثير من الدول التي تدعم التعليم مسألة بطالة أصحاب الشهادات العليا،  وبالتالي فإن المال والوقت اللذان يصرفان في التعليم يذهبان هدراً وهو ما ينبغي التركيز عليه لأن نسبةً كبيرةً من هؤلاء المتعلمين لا تستفيد من ٩٠٪ مما تعلموه في مدارسهم، فالكثير منهم يضطرّ لممارسة أعمال يدوية لا دور للكتابة والقراءة فيها ومن يسعفه الحظ لممارسة عمل مكتبي أو أي عمل قد يحتاج فيه لمهارات القراءة على الأقل فسيجد إن بقية المواد التي درسها خلال التعليم الأساسي والتي استهلكت ٩٠٪ من الوقت والتكلفة التعليمية لا دور لها إطلاقاً في حياته، وبنظرة إحصائية بسيطة فسنجد إن كمية كبيرة من الموارد المالية تذهب هدراً ، ولو أضفنا الفاقد الزمني مع الفاقد المالي بالإضافة إلى  إمكانية تدريب هؤلاء الأطفال في وقت مبكّر على الأعمال التي سيشغلونها فعلاً فإننا سنكتشف إن الدولة التي تدعم تعليم أطفالها تُفقِرهم أكثر مما تغنيهم وتفقر نفسها وتفقر المجتمع ككل، خصوصاً حين نعلم إنّ دعم التعليم يكون من الضرائب المسلّطة على أولياء أمورهم وليس من حرّ مال الدولة.
المشكلة إنّ أغلب الوظائف في دول العالم الثالث لا تحتاج لما يتعلمه هؤلاء خلال التعليم الأساسي، وبالتالي فإن النظرة الواقعية التي ستنجم من تحرير التعليم بهذا الشكل قد تقود إلى إعادة تشكيله بحيث يطغى التدريب المهني الفاعل على التعليم النظري وكذلك يطغى التعليم التخصصي ( الذي قد يستثني المواد الدراسية التي لا يحتاج إليها الطالب وذلك حسب الموارد المالية والمستوى الذي توفّره المدرسة أو المعهد أو الجامعة) ، فتعدّد المستويات والتخصّصات سيكون نتيجة طبيعية لتحرير التعليم من طغيان الدولة وخصخصته، وسينجم عن ذلك بالضرورة ظاهرة "عمالة الأطفال" وهي الظاهرة التي يجب إعادة النظر فيها كما أشرنا سابقاً وهي جزء من حقوق صغار السن القادرين والطامحين للحصول على عمل في وقت مبكر من حياتهم ، وهو حق طبيعي شوّهته الحضارة المعاصرة، أمّا الخوف من استغلال الأطفال واستعبادهم فهو أمر زائد وموضوع آخر لا يخصّ الأطفال وحدهم ويمكن الحدّ منه بوضع قوانين تحمي حقوقهم وليس بالمنع الجذري لفكرة عملهم في هذه السن.